كتابات وآراء


25 يناير, 2017 12:35:00 ص

كُتب بواسطة : سناء مبارك - ارشيف الكاتب


في المسلسل الأميركي الشهير "جرايز أناتومي"، يدخل رجل الطوارئ مصاباً بطلق ناري في أجزاء متفرقة من جسده، في المشهد التالي زوجته المذعورة تمسك بابنتها وتصيح: "هي لم تكن تقصد أن تقتله.. لقد كان حادثاً عارضاً".

الطفلة ذات الست سنوات أفرغت 17 رصاصة في جسد أبيها!

جلست الطبيبة ميردث جراي؛ لتقطب جرحها فسألتْها: هل أبي بخير؟
- أجابتها بوداعة: أتمنى أن يكون بخير عزيزتي!
- بكل برود: كيف لم يمت؟! لقد أطلقت عليه الرصاص.. الكثير من الرصاص!

يبدو الوجوم على الجميع في المشهد، تكسر الأم الصمت معلّقةً: إنها طفلة صغيرة لا تعني ما تقوله، أبوها رجل طيب، هو يغضب كثيراً ولكنه لا يقصد أذيتنا.. لقد ترك سلاحه على المنضدة، هذه كانت غلطته.

كانت الأم لا ترى من غلطات زوجها إلا هذه الأخيرة؛ أنه ترك أداة الانتقام في متناول الصغيرة لا لأنه أبرم الفعل الذي أجج هذه النوازع فيها، ضرب الرجل عائلته للدرجة التي تجعل طفلة صغيرة تشهر سلاحاً في وجهه؛ ليكف عن أذيتهما هي ووالدتها، كانت تدافع عن كلتيهما. خلال الحلقة، تم تصوير الأم كامرأة واقعة في حيرة بين محبتها لزوجها رغم عدائيته وقلق أذيته لها ولابنته.. كانت تختلق له كل الأعذار طوال الوقت، تمارس سباحتها في بحر الإنكار قبل أن تقرر أن تستسلم للموجة التي تقذفها نحو الشط.

تذكرتُ هذا المشهد وأنا أقرأ رواية "لا تخبري ماما"، رواية مروّعة تحكي فيها توني ماغواير معاناتها الحقيقية مع أبيها هي الأخرى، المعاناة المجبولة بما سمته "خيانة" أمها لها، أمها التي كانت تحب زوجها للدرجة التي لم تجعلها تصدق ابنتها عندما هرعت تخبرها بحادثة اغتصابه لها.. رغم أنها في داخلها صدقتها، فقد كانت أنطوانيت طفلة صغيرة لا يمكنها أن تختلق كل تلك التفاصيل، ولكنها فضلت أن تدخل في غيبوبة من الإنكار.

تقول توني في أحد الفصول: "كنتُ أثق بحبّ أمي لى.. ستطلب منه أن يتوقّف.. لكنّها لم تفعل". كان للأب نسختان في كل الأحداث: النسخة الجيدة والنسخة الغاضبة. تمسكاً بنسخته الجيدة وبدلاً من أن تحمي الأم ابنتها، أهملتها وتركتها بلا حماية، غيرتْ مدرستها الراقية؛ خوفاً من أن تلاحظ المديرة المتقدة الذكاء والتي تحب ابنتها التغييرات في سلوك أنطوانيت، لم تعد تسرّح لها شعرها أو تلبسها ثياباً لائقة؛ حتى لا تحظى بأصدقاء تحكي لهم، ظنت هكذا أنها تحمي نفسها من الوقوع في حيرة الاختيار بينهما إذا ما انكشف الأمر وأصبح واقعاً لا تهرب منه نحو افتراض أنها أوهام طفلتها.. منعتها من أن تتكلم معها عن أي شيء يحدث بينها وبينه مهما كان.. هكذا بَنَتْ سياجها.

جارة صديقتي يضربها زوجها عندما يسكر ثم يراضيها بالذهب؛ كان غنياً، يضربها ويهديها، ويضربها ويهديها! كانت راضية بهذه المقايضة. أتتْ ذات مرة باكيةً بينما كنا نجلس وكان وجهها متورِّماً، سألتها إن كان زوجها قد عنّفها فنفتْ ذلك على الفور. أخبرتني صديقتي لاحقاً بأنها ترفض الحديث عن الأمر حتى لأهلها، فكان يتبرع هو كل مرة بإخبارهم، يخبرهم هو بنفسه بأنه يضرب ابنتهم. كان قوياً بماله وكانت ضعيفة بغوايته، برشوته المادية التي ربما أخذتها على محمل عاطفي.. الهدية رمز الحب، لذا فلعل الأمر هكذا في خيالها "يضربها، لكنه يحبها أكثر !".

بين أعلى درجات الإنكار التي تمارسها الأنثى، ومع أعنف صنوف المساومة بين القلب والعقل، حدث أن صادفتُ طفلاً جاء للطوارئ في حالة يرثى لها؛ رضوض وكسور وحروق، قديمة وحديثة.. كانت الأم تقف عند الباب هي ورجل لم ترضَ أن تعرفه بشيء، صامتة ونحن نحاول إنقاذه وعندما فشلنا لم تذرف أي دمعة، كانت واجمة، تمثالاً لا يتحدث ولا يظهر أي مشاعر حتى بعدما عرفت أن ابنها مات.. قررنا أن نحتفظ بالجثة لعرضها على الطب الشرعي، كنّا نشك في حالة سوء معاملة وانتهاك، انهارت ونحن نبلغها بقرارنا وجعلت تترجانا أن ندعهم وشأنهم. لم يكن من شأننا أن نعرف الحيثيات ولم نسأل عنها بالتأكيد.

اتبعنا الإجراء القانوني؛ حفاظاً على المهنية، ولكن لم نستطع أن نمنع أنفسنا طوال اليوم من أن ننبري في محاولة لفهمها، قال أحد الزملاء: هذا ابنها مِن غيره.. لا تفسير آخر.. عقّب الآخر وقد شطح بخياله: ربما هو نتاج خيانتها وفي مقابل مسامحتها يعاقب ابنها.. ثالث قال: إنهما أبواه ولكنهما ببساطة مريضان نفسيان.. أنا وزميلتي كانت تشغلنا حقيقة واحدة فقط: من أين تأتي النساء بكل هذا الكم من الإنكار؟! كم مرة ماتت تلك المرأة قبل أن تصل لهذه الدرجة من التبلّد؟! كم مرة بكت قبل أن تنضب دموعها، تلك الجروح القديمة، آثار الحروق؟! كم مرة صمتت وابتلعت صوتها؟! كم صبرت على من فعل ذلك بابنها؟َ!

صعوداً نحو هذه القمة من الإنكار والتبلّد، يكون هناك سلالم يجب أن ترتقيها هذه الإناث، سلالم من الأعذار تجعلها تكمل الطريق نحو القمة، سلم "أصله طيب بس عصبي"، سلم "ماليش غيره ومالوش غيري"، سلم "الناس وكلام الناس"، سلم "هو غيور والغيرة يعني حب"، سلّم "اتحملي وماتخربيش بيتك" ، سلم "كان حادث مكنش يقصد"، سلم "يمكن أنا غلطانة"، سلم "الأولاد بيستفزوه" ، سلم "المرة الجاية مش حيكررها"، سلم "لما أسيبه أروح على فين؟!"، سلم "كازوز ولا الغدرة" ، "ظِل راجل ولا...".. إلخ!

إنها أوهامك عزيزتي، كل هذه الأوهام تشبه المشي في النوم، تجعلك ترتقين تلك القمة دون إدراك ولا تفيقين إلا وقد ارتطمت عظامك في قاع السفح، أفيقي قبل أن يحدث هذا، أفيقي واهربي، وتأكدي أن عناء الركض في الظلام أهون من مغبّة السقوط من رأس تلك التلّة.

: