كتابات وآراء


12 مارس, 2017 10:09:00 م

كُتب بواسطة : سناء مبارك - ارشيف الكاتب


كانت صديقتي تستقبل كل تلك الاستفزازات بابتسامة عريضة، قبل سنواتكنتُ في زيارتها بعد أن تزوجتْ وذهبتْ للعيش في بيت عائلة زوجها، هناك حيث أُفردَ لهاطابقٌ مستقل، لكنها في الواقع كانت تتشاركه مع حماتها التي لم تفارقنا طوال الوقتوظلتْ تناكدها أمامي كل الجلسة، لم أكد أصدق عيني وأنا أرى كل ذلك الاستسلام منصديقة عمري صاحبة الشخصية اللامعة، الصاخبة والمميزة. 
 
كانتتعرفني وتحفظ خرائط وجهي، تشاركنا من قبل كل المآزق الممكنة، أظنها قد رأتْ علىملامحي ذلك الكدر الذي يغطيها كلما رأيتُ أحدهم عاجزًا عن المواجهة.. لمّا ودعتنيبجانب الباب عانقتني طويلًا وقالت لي: " لا تقلقي سناء، أنا سعيدة وأمام هذهالسعادة يبقى كل ما رأيتِه معركة جانبية لا وقت لي ولا رغبة في خوضها".

طوال الطريق قلّبتُ هذه الجملة في رأسي على كل الجهات وكلّما أردتُأن أواجه حقيقتها شعرتُ بضآلة انفعالاتي، لقد فتحتْ لي بابًا نحو قبو لم أكن قد اكتشفته،سرداب في الرأس يمكن لأحدنا أن يضع فيه متعلقات هذه "المعارك الجانبية"ويغلق عليها الباب..

بعد ذلك قررّت أني سأحظى بهذه المساحة التي أكدّس فيها المخلّفاتمن نوع "المعاركالتي لا وقت لي ولا رغبة في خوضها"، كانت هذه المساحة صغيرة في البداية، كنتأجد صعوبة في فرز معاركي الهامشية كنت أشعر أن كل حروبي التي أخوضها أساسية وشرعية،كل مشاعري السلبية مبررّة، كل استيائي ذا حجة، كل مآخذي طبيعية، كل تحفظاتيمعذورة، كل مخاوفي حقيقية، حتى أني كنت أشعرت بهوان التخلي عن هذه المعارك، إذلايمكن لأحدنا أن يقر هكذا وبسهولة أن كل تلك الأوقات التي قضاها في التدبير لأمورتشغله بأقصى درجة؛ لم تكن إلاّ منازلته اليائسة مع الريح.
 
لي صديقأحبه كثيرًا ونحن أصدقاء مقرّبون، يعيش في غمرة حالة من الغموض فرضها على نفسهبنفسه، لا يخبر أحدًا عن أي شيء، لا مكانه عندما يغيب، ولا عن عمله، ولا علاقاته،ولا بما يفكر أو يشعر، حتى أبسط الأسئلة يتعمد ألاّ يجيب عليها إلاّ مراوغًا،فارضًا على نفسه هالة "الشخص الغامض" ويتمسك بها باصرارعجيب معتقدًاأنها "إكسير الجاذبية".. يصارع لأجل حيازة حقه هذا في كل الجهات، في كلمرة يقرر فيها أنه سيخوض حربًا ضد فضول الآخرين تجاه حياته تكون هذه معركتهالمقدسة التي يحشد لأجلها كل الجهد، ويجني فيها تكهنات البشر من حوله وشكوكهم، ثمينهار نفسيًا..أراقبه من بعيد وأفهم تمامًا مالذي يشعره في مغبّة هذه المنازلةالمرهقة، استدعي في سرِّي كل مرة شخصية الفارس النبيل دون كيخوته دي لامانتشا فيرواية الروايات "دون كيخوتي"، كانت شخصية الدون؛ كما كتبها الاسبانيميغيل دي سيربانتيس، مولعة بقراءة كتب الفروسية والشهامة حتى اختلط عليه الواقعبالخيال، فقرر انه ليس هو وإنما ذلك الفارس من زمن قديم، وجعل يسري بين الناسلابسًا درعه وخوذته ممتطيًا حصانه معلنًا حربه على قوى الشر والظلام مدافعًا عنالضعفاء، ولأجل هذه الغاية الرفيعة خاض منازلة ذات مرة مع طواحين الهواء معتقدًا أنهاشياطين بأدرع هائلة، فما كان من هذه الشياطين المتخيلة إلاّ أن دارت به ورمته علىالأرض مرضوضًا غائبا عن وعيه.. ومن ينسى كيف هاجم لوحده جيشًا جرارًا علا غبارهمتيقنًا أن هذه معركته الأثيلة التي سيخلدها الزمن، ولكنه في الحقيقة كان يخوضحربه ضد قطيع من الأغنام نتج عنها نفوق عدد لا بأس به من الماشية المسكينة، وخلصالأمر إلى مهاجمة دون كيخوته نفسه بأمطار من حجارة الرعاة..
 
والآن،ماذا لو علم أحدنا أن أسمى معاركه في الحياة ماهي إلاّ معركة دون كيخوتية، ربماتكون وهمية ولكنها في الغالب حقيقية، حقيقية وعبثية بالمعنى الأدق.

أسألنفسي كل مرة كيف أقرر إن كانت معاركي في الحياة حقيقية ومصيرية أم جانبية؟ وأجد منالصعب الإجابة على هذا السؤال بشكل مطلق، ولكن ربما يمكننا اتباع الطريقة القديمةفي المقايضة (المنفعة مقابل الثمن)، سيكون علينا أن نضع معاركنا ومشاغلناواهتماماتنا كلها على هذا الميزان ومن الملزم أن ترجح كفة المنفعة بمعناها الساميحتى يستقيم الأم
في رواية "ضوء بين المحيطات" التي تحوّلت لفيلم مؤخرًا، تقول الاسترالية .إم.إل.ستيدمان: "كي تسامح عليك أن تفعل ذلك مرة واحدة، ولكي تحقد سيتوجب عليك أن تفعل ذلك طوال الوقت،كل يوم".
هذه الجملة الغائرة في الروعة تقربنا كثيرًا من المعنى الساميللمنفعة وتتيح لنا أن نتساءل بوضوح حول ما نفعله في الحياة ومردوده النفسي والماديوالأخلاقي، وعندما ندرك ما يمكننا أن نتخلى عنه ونضع في سرداب "المعاركالجانبية التي لا وقت ولا رغبة لنا في خوضها" سندرك بوضوح أن لا حاجة للمرءبخوض معركة لا تضعه في خضم الحياة الواقعية ولا تقربه من السعادة والراحة والنجاح.